أدب السجون.. يوميات الواحات.. صنع الله إبراهيم شاهد على سنوات القمع

يعد كتاب “يوميات الواحات” للكاتب المرموق صنع الله إبراهيم وثيقة تاريخية أكثر منها أدبية، تنتمي إلى أدب السجون، ويشهد على واحدة من أهم الفترات السياسية التي مرت على المنطقة بأكملها وليس مصر فقط، وأسست لاحقا لما نعايشه اليوم من حوادث، وذلك بأسلوب واقعي وبسيط لا يميل إلى المبالغة أقرب إلى التدوين اليومي المُرمز “يحتوي على رموز واختصارات” في كثير من أجزائه.
يدور الكتاب في أجواء مصر خلال الستينيات، تحت حكم جمال عبد الناصر، وهي فترة شهدت تصاعد الأفكار اليسارية والقومية إلى جانب قمع المعارضين السياسيين. في هذا السياق، تعرض صنع الله إبراهيم للاعتقال بسبب انتمائه اليساري، وكان واحدًا من العديد من المثقفين الذين واجهوا السجن بسبب آرائهم. يعكس الكتاب هذه الحقبة من خلال تصوير واقع المعتقلات والسياسات القمعية، ما يجعله شهادة أدبية حية توثق الصراع الفكري والسياسي في ذلك الزمن.
يوثق الكاتب لسيرته الشخصية أثناء اعتقاله في معتقل الواحات البحرية خلال الستينيات، وعلى مدار خمس سنوات، بأسلوبه الواقعي والمباشر، كتب هذه اليوميات ليعكس فيها الحياة اليومية داخل المعتقل، مع تفاصيل دقيقة عن الظروف القاسية داخله، فضلا عن العلاقات بين المعتقلين المنتمين إلى تيارات سياسية مختلفة.
التعذيب غاية أم وسيلة
في كتابه “يوميات الواحات” يصف صنع الله إبراهيم الحركة الشيوعية التي أغرتها كلمات عبد الناصر البراقة عن الحرية والعدالة، فانسحقت تماما بل أعلنت حل تنظيماتها رسميا، وقبلها حاولت الاندماج في كيان واحد، على أمل اللحاق بركب تنظيم الطليعي الاشتراكي “شكلا” كما يتضح لاحقا.
أما الستينات وما أدراك ما الستينات كالمقولة المشهورة عن الرئيس الراحل محمد مرسي، فقد عجت بأنواع من الانتهاكات الإنسانية غير المسبوقة، والتي أورد صنع الله بعض منها في كتابه، مشيرا إلى الحادث المأساوي لمقتل المناضل شهدي عطية على يد جلاديه بعد أن فارق الحياة جراء تعذيبه.
في “يوميات الواحات” يوثق الكاتب لطرق التعذيب التي نالها زملاؤه، والمعتقلون السياسيون عموما داخل السجون المصرية، من شيوعيين أو إسلاميين حيث تبدأ تلك الوحشية في التعامل منذ لحظة إلقاء القبض مرورا بسجن أبوزعبل، ثم الواحات لاحقا، حيث لم تكن تلك الأساليب بغرض معرفة حقيقة بعينها أكثر منها طريقة الغرض منها كسر إرادة المعتقلين، أو أحيانا تعذيبهم بلا سبب محدد سوى مرض قلوب الجلادين.
في أعقاب إلقاء القبض على إبراهيم، نُقل أولًا إلى قسم شرطة الدقي حيث تعرض للضرب المباشر بمجرد وصوله. يصف الكاتب كيف بدأ الضباط في إهانته دون أي مقدمات، حيث كانوا يصرخون عليه ويسبونه قبل حتى أن يسألوه عن أي شيء.
“انهالوا على رأسي باللطمات، وأنا عاجز عن تفاديها… تواصل ضربي دون توقف، وتحطمت نظارتي. كنت أسمع الضابط يصرخ: ‘وديتوا البلد في داهية، يا شيوعيين؟!’ قبل أن يسدد لي ركلة قوية جعلتني أرتطم بالجدار.”
بالانتقال إلى سجن أبو زعبل تغير شكل التعذيب حيث كان يُجبر المعتقلون على الجلوس بوضعية القرفصاء لساعات طويلة، بينما يتلقى كل منهم ضربات بالعصي والهراوات، بينما يصرخ الحراس “لا ترفع رأسك، وإلا ستضرب مرتين “
في واقعة مقتل شهدي عطية وهو أحد القيادات الشيوعية في مصر، يقول صنع الله الذي لم يكن حاضرا للواقعة ولكنها كانت حدثا ضخما لدرجة تناقلته القيادات داخل السجون وعلم بها في محبسه حيث تم سحب شهدي عطية من الزنزانة، وكان يتلقى الضربات دون أن ينبس ببنت شفة. كانوا يضربونه على رأسه بقبضاتهم، ثم ركله أحدهم ليسقط أرضًا. لم يمنحوه فرصة لالتقاط أنفاسه، بل استمروا في ضربه بالسياط على ظهره العاري.
لم يكن هذا التعذيب الوحشي يهدف إلى استخراج اعترافات، بل كان عقابًا وإذلالًا متعمدًا، حيث تم استهدافه كونه أحد المثقفين البارزين بين المعتقلين كان الضابط يقف فوق شهدي ويصرخ: ‘إنت بتتمنظر علينا بثقافتك يا ابن الكلب؟ هنشوف مين اللي هيكسب دلوقتي!’ ثم بدأ يركله مجددًا في صدره حتى سمعنا صوت تكسير عظام”.
لاحقًا، وبعد ساعات من الضرب المبرح، أُعيد شهدي إلى الزنزانة وهو فاقد للوعي تمامًا، وتركوه ينزف دون أن يقدموا له أي مساعدة طبية “كان جسده ملطخًا بالدماء، وكلما حاول أحدهم لمسه أو رفعه، كان يصرخ من الألم. بقينا نحاول إفاقته طوال الليل، لكنه لم يتحرك. عند الفجر، أدركنا أنه قد فارق الحياة.”
عندما علم باقي المعتقلين بوفاته، انتشر الذعر والغضب بينهم، لكنهم كانوا عاجزين عن فعل أي شيء. أما إدارة السجن، فحاولت التغطية على الجريمة بإبلاغ السلطات أن الوفاة كانت بسبب “هبوط حاد في الدورة الدموية”.
الكادر الشيوعي شهدي عطية – المصدر “أرشيف صحفي”
وبحسب شهادة صنع الله كان يتم استخدام الصدمات الكهربائية أيضا كوسيلة لتعذيب المعتقلين الذين رفضوا الاعتراف أو التعاون. حيث كان يتم وضعهم في غرف صغيرة، وربطهم بالكابلات الكهربائية، ثم تشغيل التيار على دفعات متقطعة.
ويقول: “رأيت زميلي يُسحب إلى الغرفة المجاورة، حيث سمعت صراخه يتعالى فجأة. عندما خرج، كان جسده يرتجف، وملابسه مبتلة بالعرق والدموع، لكنه لم يكن قادرًا على الوقوف وحده.”
بجانب العنف الجسدي، كان هناك تعذيب نفسي يتمثل في حرمان المعتقلين من النوم لأيام متتالية، أو منع الطعام عنهم، أو إعطائهم كميات ضئيلة جدًا تكاد لا تكفي للحفاظ على حياتهم.
يوثق ذلك بالقول: “لم نكن نعرف طعم النوم، كان الحراس يدخلون الزنازين كل ساعة تقريبًا، يصرخون ويجبروننا على الوقوف. كنا منهكين، حتى أن البعض كان يسقط فاقدًا للوعي في مكانه.”
مقاومة الأسوار – المعرفة تتناقل كأنها سر مقدس
رغم القيود القاسية، لم يستسلم المعتقلون لعتمة الزنازين، بل صنعوا لأنفسهم عالمًا من المقاومة داخل الأسوار، حيث لم يكن السلاح المتاح سوى العقل والكلمة. في مواجهة القمع والتعذيب، أعادوا تشكيل واقعهم، محولين المعتقل إلى ساحة للنضال الثقافي والإنساني. كانوا يدركون جيدًا أن السجان لا يهاب سوى المعرفة، وأن الجهل هو أداة القمع الأقوى، لذلك جعلوا من الكتب والتعلم وسيلتهم للصمود.
لم يكن الحصول على كتاب داخل السجن أمرًا سهلًا، لكن المعتقلين ابتكروا طرقًا لنقل المعرفة فيما بينهم. كان من يمتلك كتابًا يقرؤه بصوت عالٍ، بينما يتجمع الآخرون حوله، يناقشونه وكأنهم في قاعة محاضرات خفية، يديرون نقاشات فكرية رغم القيود الحديدية. في كتابه *يوميات الواحات*، وصف صنع الله إبراهيم هذه المشاهد الحية، حيث كانت المعرفة تُتناقل كأنها سر مقدس، والقراءة بصوت مسموع تتحول إلى فعل مقاومة.
لكن المقاومة لم تتوقف عند الثقافة وحدها، بل امتدت إلى تفاصيل الحياة اليومية. في زاوية من ساحة السجن، قرر بعض المعتقلين زراعة الخضروات، مستخدمين أي حفنة تراب متاحة. كانت هذه المزرعة رمزًا حيًا على قدرتهم على مقاومة الموت البطيء، على صنع حياة حتى في أحلك الظروف. لم تكن مجرد محاولة لتحسين الطعام، بل كانت فعلًا من أفعال التحدي. أصبح للمزرعة حراسها ومزارعوها، وأصبح الجميع يشعر بأنه جزء من مشروع جماعي يعطي للحياة داخل الجدران معنى.
أما الذين لم يجدوا في الأرض ملاذًا، فقد لجأوا إلى الكتابة، ينقشون أفكارهم على الجدران، أو يهربون رسائل قصيرة مكتوبة على أوراق مهربة مخفية في طيات الملابس. آخرون وجدوا في الخيال بابًا للهروب، فبدأوا في كتابة القصص والشعر، يحكون عن عوالم تتجاوز القضبان، عن مدن لم تطأها أقدامهم منذ سنوات، وعن أحلامهم التي لم يستطع القمع انتزاعها.
في السجن، كانت الكتابة فعل نجاة، والخيال بابًا مواربًا نحو الحرية. فبينما كانوا ممنوعين من كل شيء، احتفظوا بحقهم في التفكير، وفي رسم صورة مختلفة للعالم خارج الأسوار، عالم لا يمكن للسجان أن يضع يده عليه، مهما حاول.
سجل يومي.. على الهامش
يبدو الكتاب في جزء منه ليس بالقليل بمثابة سجل يومي يحوي أدق التفاصيل الذي لم يغير الكاتب في أسلوبها المتردد وغير المحكم، والمتأثر بوجوده خلف الأسوار، وهو الأسلوب الذي حرص على عدم تغييره حتى بعد خروجه واكتمال الكتاب.
في بداية الكتاب يهدي صنع الله إبراهيم الكتاب إلى صديقه حسين عبدربه لنعلم لاحقا أنه كان السبب في خروج اليوميات من السجن إلى النور حيث حرص على اصطحابها أثناء الإفراج عنه قبل إبراهيم نفسه، وسلمها لشقيقته التي حافظت عليها بدورها حتى خرج ولملمها للقراء في كتاب ثمين يشهد على فترة دقيقة من فترات الحكم في مصر، وما شاب تلك القبضة على الشيوعين الأوائل من انتهاكات إنسانية جسيمة وصلت إلى حد الوفاة تحت نيران التعذيب.
الكتاب ليس مجرد سجل يومي، بل هو أيضًا تأمل عميق في قضايا السلطة، الحرية، والمقاومة، يتميز أسلوب صنع الله في هذا العمل بالبساطة والصدق، مع تركيز على التفاصيل الصغيرة التي تعكس الحالة الإنسانية في ظل القمع، كما أنه للهوامش دور البطولة في هذا الكتاب بعكس مهمتها الاعتيادية من مجرد الإشارة لمصدر أو تفسير لحدث ما، لتصبح جزء مهما من مكونات الكتاب بشكل غير مسبوق.
وعلى سيرة الهوامش لم يقسم إبراهيم الكتاب بشكل تقليدي كالفصول الروائية، بل اعتمد على هيكلية اليوميات التي تعكس طبيعته كسجل يومي كتبه الكاتب خلال فترة اعتقاله في معتقل الواحات البحرية (1959-1964)، مع إضافة لاحقة للهوامش التي تُعد جزءًا أساسيًا من بنيته.
وكما سبق وأن ذكرنا فإن الكتاب عبارة عن سلسلة من التدوينات اليومية ليست بالضرورة مُرتبة بتسلسل زمني صارم، لكنها تعكس التدفق الطبيعي للأحداث كما عاشها الكاتب، إذ تركز على الحياة اليومية داخل المعتقل من روتين، وتفاصيل مثل الطعام، النوم، الأصوات، فضلا عن التفاعلات بين السجناء والسجانين.
أما الهوامش فليست موجودة في النص الذي كتب في السجن، بل أُضيفت لاحقًا عندما قرر صنع الله نشر الكتاب عام 1986، حيث تظهر الهوامش في أسفل الصفحات أو كنصوص منفصلة تُكمل النص الأساسي، وتتناول توضيحات للأحداث، الشخصيات، أو السياقات التي قد لا تكون واضحة للقارئ غير المطلع على التجربة، لتلعب أدوارًا حاسمة في تعميق النص وإثرائه.
غلاف كتاب يوميات الواحات – المصدر “أرشيف صحفي”
الإفراج والخروج للحرية
مع التغييرات السياسية في مصر، خاصة بعد نكسة 1967، بدأ النظام في الإفراج عن المعتقلين السياسيين تدريجيًا، حيث حصل إبراهيم على حريته بعد سبع سنوات من الأشغال الشاقة.
“عندما أطلقوا سراحي، شعرت وكأنني أعود للحياة من جديد… كنت أتنفس هواء الحرية، لكن بداخلي بقي السجن محفورًا إلى الأبد.”
يختم الكاتب “يوميات الواحات” بتأمل عميق حول معنى الحرية، والمعاناة التي عاشها في المعتقل، حيث يؤكد أن السجن لم يكن مجرد عقوبة، بل كان مدرسة قاسية تعلم فيها عن طبيعة الإنسان والمجتمع والسياسة.
كما يشير الكاتب في ختام يومياته إلى استمرار القمع في عهد ناصر حتى بعد الإفراج عنه ويقول: “ استمر معتقل القلعة وسجن طرة يستقبلان الشيوعين تحت دعاوى كثيرة منها التلسين عن النظام، واعتقل أيضا كل من عارض منهم الحل، بل اعتقل عدد من قيادات منظمة الشباب الاشتراكي وأساتذة العهد العالي للدراسات الاشتراكية سنة 1966 بدعوى الترويج للمذهب الماركسي، وفي نفس السنة اعتقل أيضا كمال عبد الحليم بسبب اشتراكه في مناقشات حول نتائج قرار إنهاء الوجود المستقل، وساد البلاد جو بوليسي تسبب في نشر السلبية واللامبالاة والعزوف عن النشاط السياسي بين عامة الشعب”.
عن الكاتب
صنع الله إبراهيم (مواليد 1937) هو كاتب وروائي مصري يُعد من أبرز الأصوات في الأدب العربي الحديث. اشتهر بأعماله التي تمزج بين السرد الأدبي والتوثيق التاريخي، وتعكس رؤيته النقدية للمجتمع والسياسة. ينتمي إلى التيار اليساري، وعُرف بمواقفه المناهضة للأنظمة الحاكمة، حيث اعتُقل في الستينيات بسبب نشاطه السياسي وقضى عدة سنوات في سجن الواحات، وهي التجربة التي وثقها في كتابه “يوميات الواحات”.
في عام 2003، فاجأ صنع الله إبراهيم الأوساط الثقافية عندما رفض جائزة الدولة التقديرية في الآداب، التي تُمنح من وزارة الثقافة المصرية، احتجاجًا على سياسات نظام حسني مبارك. أثناء كلمته في حفل الجائزة، أعلن رفضه لها علنًا، قائلًا:
“إن هذه الجائزة صادرة عن حكومة لا تملك مصداقية، حكومة تدعم الفساد وتقمع الحريات”.
كان موقفه هذا بمثابة رفض رمزي للسلطة، وأكد أن استقلال المثقف أهم من أي تكريم رسمي. لقيت هذه الخطوة صدى واسعًا، حيث اعتُبرت أحد أبرز المواقف الأدبية ضد النظام الحاكم في مصر آنذاك.
1 | يدور الكتاب في أجواء مصر خلال الستينيات، تحت حكم جمال عبد الناصر، وهي فترة شهدت تصاعد الأفكار اليسارية والقومية إلى جانب قمع المعارضين السياسيين. في هذا السياق، تعرض صنع الله إبراهيم للاعتقال بسبب انتمائه اليساري، وكان واحدًا من العديد من المثقفين الذين واجهوا السجن بسبب آرائهم. يعكس الكتاب هذه الحقبة من خلال تصوير واقع المعتقلات والسياسات القمعية، ما يجعله شهادة أدبية حية توثق الصراع الفكري والسياسي في ذلك الزمن. |
2 | لم يكن هذا التعذيب الوحشي يهدف إلى استخراج اعترافات، بل كان عقابًا وإذلالًا متعمدًا، حيث تم استهدافه كونه أحد المثقفين البارزين بين المعتقلين كان الضابط يقف فوق شهدي ويصرخ: ‘إنت بتتمنظر علينا بثقافتك يا ابن الكلب؟ هنشوف مين اللي هيكسب دلوقتي!’ ثم بدأ يركله مجددًا في صدره حتى سمعنا صوت تكسير عظام”. |
3 | يبدو الكتاب في جزء منه ليس بالقليل بمثابة سجل يومي يحوي أدق التفاصيل الذي لم يغير الكاتب في أسلوبها المتردد وغير المحكم، والمتأثر بوجوده خلف الأسوار، وهو الأسلوب الذي حرص على عدم تغييره حتى بعد خروجه واكتمال الكتاب. |
لم يكن الحصول على كتاب داخل السجن أمرًا سهلًا، لكن المعتقلين ابتكروا طرقًا لنقل المعرفة فيما بينهم. كان من يمتلك كتابًا يقرؤه بصوت عالٍ، بينما يتجمع الآخرون حوله، يناقشونه وكأنهم في قاعة محاضرات خفية، يديرون نقاشات فكرية رغم القيود الحديدية. في كتابه *يوميات الواحات*، وصف صنع الله إبراهيم هذه المشاهد الحية، حيث كانت المعرفة تُتناقل كأنها سر مقدس، والقراءة بصوت مسموع تتحول إلى فعل مقاومة. |